عملاقان في لقاء.. عابر نجيب محفوظ والبردوني وحوارهما الأدبي
وبمجرد أن
أجلسوا البردوني بجوار نجيب محفوظ (في القصر الجمهوري) سأله البردوني: ماذا بعد
رواية (اللص والكلاب)؟.. ما أكثر الكتّاب المصريين الذين أكدوا أنك قد قلت كل شيء
في الثلاثية، ماذا يقولون الآن وقد طلعت لهم بمنحى جديد في (اللص والكلاب؟). رد
محفوظ: وهل استغربت؟ رد البردوني: لا... بعد قراءة روايتك الفذة (زقاق المدق) عرفت
بوابة مضيئة تفضي إلى غرف وحدائق، وكانت الثلاثية ذلك القصر العامر.. ولمحت في
الثلاثية أول طريق مختلف تبدأ أول معالمه من وفاة (أمينة) في آخر صفحات (السكرية).
ثم سأله
البردوني: ليس على الروائي خلق أبطاله، بل عليه اختيار أرقى النماذج، لماذا كل
أبطال (زقاق المدق) وبطلاتها والثلاثية متهافتون دون أيه لمحة تماسك؟ هل كل
القاهريات (زبيدة) و(زنوبة) و(أم مريم)؟ وهل كل رجالها (أحمد عبدالجواد) و(إبراهيم
الفار) و(سيد علي السيد)؟ كذلك رد محفوظ: لو سألتك على المغزى؟ قال البردوني: أظنك
أردت تعرية الطبقة البرجوازية الكبرى. قال محفوظ: نعم.. أليس هذا سبباً كافياً.
قال البردوني: كان أقله يفي، كما فعلت في رواية (القاهرة الجديدة). قال محفوظ: يا
خبر.. ورايا ورايا؟ قال البردوني: وأرجو أن يكون الزمان أطول.
هذا اللقاء
العابر أورده البردوني في إحدى حلقات مقالات سيرته الذاتية، التي نشرتها قبل وفاته
صحيفة (26 سبتمبر)، وأعيد نشرها حديثاً في كتاب (تبرج الخفايا ولفيف من التذكرات).
في تلك الفترة (زمن اللقاء) كان قد صدر للبردوني ديوانه الأول (من أرض بلقيس) في
مصر، ولقي اهتماماً ورواجاً عُرف من خلاله للبردوني شاعراً مختلفاً.
تُدلل
الأسئلة على مدى سعة أفق البردوني، الذي كان حينها في مستهل تجربته الإبداعية،
بينما كان محفوظ كاتباً كبيراً، وكان قد صدر له عدد من الروايات ذاع بها صيته
عربياً.
كان
البردوني حينها قارئاً نهماً، وتعكس القراءة مدى وعيه بما يقرأ، وهو ما نفهمه في
طبيعة الأسئلة التي وجهها البردوني لمحفوظ عن رواياته، وقدرة البردوني على
الربط بين الروايات في سياق محاولته فهم إبداع مَن يقرأ له.. وهنا ظهرت
مبكراًشخصيته النقدية التي عُرفت لاحقاً في مقالاته في الصحف اليمنية، والتي عُرف
من خلالها ناقداً له أسلوبه الخاص به، بجانب تجربته شاعراً.
كما يمكن
ملاحظة مدى هدوء (محفوظ) في الرد على البردوني، وهو لم يكن جديداً، فمحفوظ عُرف
بالهدوء والتواضع والدبلوماسية.. وهو ما التزم به حتى وفاته؛ فقد كان نجيب محفوظ
قليل الكلام عن أعماله، بل كان لا يعترض على أي قراءة نقدية لأي عمل من أعماله،
لدرجة أنه كان يوحي لكل نقد أعماله بأن ما ذهب إليه الناقد هو ما قصده من كتابة
تلك الرواية.. إذ عُرف عن محفوظ خلقه الرفيع.
نفهم من
الحوار السابق، وبخاصة من خلال ما سرده البردوني نقلاً عن آراء نقدية في أعمال
محفوظ.. مدى متابعة البردوني للكتابات النقدية بما فيها المصرية، والتي أبدى فيها
البردوني موقفه، الذي أكد من خلاله قائلاً: بعد قراءة روايتك الفذة (زقاق المدق)
عرفت بوابة مضيئة تفضي إلى غرف وحدائق، وكانت الثلاثية ذلك القصر العامر.. ولمحت
في الثلاثية أول طريق مختلف تبدأ أول معالمه من وفاة (أمينة) في آخر صفحات
(السكرية).
ومن ثم عاد
البردوني لانتقاد أبطال محفوظ في رواياته (زقاق المدق) والثلاثية باعتبارهم، كما
وصفهم البردوني، متهافتين.. دون أيه لمحة تماسك.. وهنا سأله محفوظ عن المغزى؛ وهو
ما أجابه البردوني موضحاً أن المغزى هو تعرية الطبقة البرجوازية الكبرى.
كان
البردوني ينظر لكتابات نجيب محفوظ بتقدير جم، وهو ما أكده في كتابات وحوارات في
مراحل لاحقة من تجربته، وقد كان البردوني أكثر نضجاً، بل إنه اعتبر نجيب محفوظ أبا
الرواية العربية المعاصرة.
وعلى الرغم
من تأثير نجيب محفوظ في عددٍ كبير من كتاب القصة والرواية، فإنه، كما يرى
البردوني، (لا أحد بلغ مبلغ محفوظ والطيب صالح وعبدالرحمن منيف) وفق ما ورد عنه في
حوار أجراه الصحافي اليمني سامي غالب.
حتى بعد
فوز محفوظ بجائزة نوبل عام (1988م) سئل البردوني عن تأثير الجوائز، فرد في ذات
حوار: (إن كان كاتباً مثل نجيب محفوظ مثلاً لا يمكن لملايين العالم أن تلهيه
عن الكتابة.. ولا يمكن للفقر مهما اشتد عليه أن يمنعه من الكتابة؛ لأن طبيعة
الإجادة والاستمرار في الكتابة أصبحت جزءاً من وجوده).
وصادف خلال
فوز محفوظ بجائزة نوبل وجود البردوني في موسكو، وذكر البردوني أنه:
(طلب مني
الأدباء العرب الموجودون إلقاء محاضرة عن نجيب محفوظ في دار التقدم في موسكو،
بمناسبة حصوله على جائزة نوبل، وطلب مني رئيس الأكاديمية الأدبية في موسكو، أن
يكون حديثي متضمناً رأيي عما إذا كان محفوظ قد حصل على الجائزة لأسباب أخرى
غير أدبية. ولكنني تحدثت عن بدايات نجيب محفوظ وكيف أن دراسته لكتاب الأيام لطه
حسين انتزعه من عالم الفلسفة الذي كان يعد نفسه له إلى عالم الرواية).
أحمد
الأغبري