إبراهيم طوقان ظاهرة مميزة في تطور الشعر العربي الحديث

ترجم مشاعر شعبه وقضاياه الوطنية

إبراهيم طوقان ظاهرة مميزة في تطور الشعر العربي الحديث

يُشَكّل الشاعر إبراهيم طوقان ظاهرة مميزة في عالم الشعر العربي الحديث ، فقد احتل منزلة رفيعة بين الشعراء المعاصرين، على الرغم من قصر عمره، كما ارتبط اسمه بالقضية الفلسطينية، في الوقت الذي لم تكن فيه القضية قد أخذت اهتماماً واسعاً من الشعراء الآخرين، واندمج بمجتمعه، وعبر عن هموم وآلام أفراده، دون تعثر أو ملل. ينتمي إبراهيم طوقان إلى أسرة عربية فلسطينية معروفة باهتماماتها العلمية والأدبية، وهو أخو الشاعرة فدوى طوقان، وأخو الأديب والكاتب أحمد طوقان. 

ولد إبراهيم عبدالفتاح طوقان (إبراهيم طوقان) عام (1905م) بمدينة نابلس بفلسطين، وتلقى تعليمه الأولي بمدرسة الرشاد الغربية، ثم انتقل إلى القدس على أثر الاحتلال الإنجليزي، لاستكمال تعليمه بمدرسة المطران، ثم التحق بالجامعة الأمريكية ببيروت عام (1933م)، وحصل منها على شهادة الآداب (1929م). واشتهر أثناء فترة الدراسة بلقب (شاعر الجامعة) بعد اشتراكه في ندوات بيروت الأدبية، مع كبار شعرائها أمثال: بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، وأمين تقي الدين، وجبر ضومط وغيرهم، وعمل بعد تخرجه معلماً للغة العربية في مدرسة النجاح الوطنية بنابلس (1929-1930م)، ثم انتقل إلى الجامعة الأمريكية في بيروت ليعمل مدرساً في قسم الأدب العربي لمدة عامين قدم بعدها استقالته، وعاد إلى فلسطين حيث زاول مهنة التعليم في المدرسة الرشيدية في القدس، لكنه وبعد أن اشتد عليه المرض انقطع عن التدريس عازماً عدم العودة إلى هذه المهنة.

وعند إنشاء الإذاعة بالقدس التحق إبراهيم طوقان بها في عام (1936م)، وتسلم عمله الجديد في إذاعة القدس، وعمل مراقباً للقسم العربي، ولكن الصهيونية والاستعمار كانا له بالمرصاد، فأقصته حكومة الانتداب عن العمل بالإذاعة بعد أربع سنوات. وتصف شقيقته الشاعرة الكبيرة (فدوى طوقان) ملابسات ما حدث، بقولها: في الربع الأخير من عام (1940م)، وفي أكتوبر بالذات، أقيل إبراهيم من عمله في الإذاعة، لأنه كان في نظر تلك الجهات محرضاً، يتخذ من مركزه الكبير في الإذاعة أداة للعمل ضد المصلحة الصهيونية.. كم  وكم ثارت الصحافة العبرية ضده، وكم وجهت إليه أصابع الاتهام، بسبب الأحاديث التي كان يكتبها ويذيعها. وأثرت إقالته في نفسه تأثيراً عميقاً، فآثر الابتعاد عن وطنه، وعزم على الرحيل إلى العراق، حيث عمل هناك في دار المعلمين الرسمية، لكنه وبعد شهرين من عمله اشتد عليه الألم فقرر العودة إلى نابلس حيث نقل إلى المستشفى الفرنسي في القدس، وفيه توفي في الثاني من مايو عام (1941م) عن عمر ناهز الستة والثلاثين عاماً.. وكان إبراهيم طوقان قد انصهر في بوتقة المحنة التي كان وطنه- ولايزال-يمر بها، فصدر عنه في معظم نتاجه الشعري، وأصبح ترجماناً صادقاً في التعبير عن مشاعر السخط والثورة التي تجتاح النفوس.. وعلى الرغم من أنه لم يعش ليشهد ختام المأساة الداوية في عام 1948م، فإنه كان على وعي وإحساس شديدين، بما انتهى إليه الأمر.. ويظهر ذلك بجلاء ووضوح، من قوله متوجهاً بالحديث إلى حكومة الانتداب البريطاني بسخرية مريرة:

قد شهدنا لعهدكم بالعدالـــة

وختمنا لجندكم.. بالبسالــــة

وعرفنا.. بكم.. صديقاً وفيـــاً

كيف ننسى انتدابه.. واحتلاله؟

وخجلنا من (لطفكم)حين قلتـــــم

وعد (بلفور) نافذ.. لا محالة

كل (أفضالكم) على الرأس والعيـ

ـن.. وليست في حاجة للدلالة

وقد نبه الشاعر إبراهيم طوقان إلى ما يسببه النزاع والاختلاف بين أبناء وطنه، في هذا المنعطف التاريخي الخطير، فقال يخاطبهم، ناقماً، وملتاعاً ساخراً:

أنتموا المخلصون للوطنيـــة

أنتموا الحاملون عبء القضية

أنتم العاملون من غير قول

بارك الله في الزنود القويــــــة

وبيان منكمو يعادل جيشــاً

بمعدات زحفه الحربيــــــــــة

و(اجتماع) منكمو يردّ علينا

غابر المجد.. من فتوح أميـــــة

ما جحدنا أفضالكم، غير أنا

لم تزل في نفوسنا أمنيـــــــــة

في يديكم بقية من بلاد

فاستريحوا.. كي لا تطير البقية

اشتهرت أشعاره منذ شبابه المبكر، وكان لها أثر في  تحريك الروح الوطنية، ورددت قصائده الوطنية وأناشيده في الصحف، ودور العلم والإذاعات الوطنية، فنالت ذيوعاً واسعاً، وأحدث ذلك أثراً في شعراء الأجيال المتعاقبة التي تلت جيله.

اتسم شعره بالجزالة والقوة، كما اتسم بالعذوبة والسلاسة، والتنوع الواسع، الذي جعله مزيجاً من (الكلاسيكي، والجديد)، وكان ذا أذن رهيفة، مستجيبة للنغمات الشعرية المتطورة، كما كان يتمتع بدعابة عالية، تجلت في مواطن عديدة من شعره، وقد جمع بين شفافية العاطفة وفورة الحماس، وهموم الوطن.

تبقى مكانة إبراهيم طوقان في الشعر العربي كائنة في أنه مرحلة ضرورية بين الشعر الكلاسيكي والجديد، كان لا بد من وجودها، لتجعل تطور الشعر العربي نحو الحداثة أمراً ممكناً، كما تجعل الانتقال بين المراحل انتقالاً مرناً، بعيداً عن المفاجأة.

طبع ديوانه أول مرة بمقدمة كتبتها شقيقته فدوى طوقان، لكنه لم يتضمن كل شعره، وذلك لأنه خضع لرقابة أخيه أحمد طوقان، فخلصه من الأشعار التي رآها لا تليق بمكانته أو بمكانة أسرته، وطبع مرة ثانية عام (1975م) بترتيب إحسان عباس، ومقدمة له بعنوان (نظرة في شعر إبراهيم طوقان)، وطبع مرة ثالثة في عام (1985م) بمقدمة كتبها أخوه أحمد طوقان واشتركت فيها أخته فدوى طوقان.

تأثر إبراهيم طوقان بتجربة أحمد شوقي وحافظ إبراهيم الشعرية، وذلك من خلال صلته العميقة بالأدب المعاصر، وبمدرسة الإحياء خاصة، وتعود هذه الصلة إلى أيام دراسته الابتدائية في (مدرسة الرشاد الغربية)، التي كانت تنهج في تعليم اللغة العربية نهجاً حديثاً لم يكن مألوفاً في مدارس نابلس في العهد التركي، وذلك بفضل بعض المدرسين النابلسيين الذين تخرجوا في الأزهر، وتأثروا في مصر بالحركة الشعرية والأدبية، هؤلاء المدرسون أشاعوا في المدرسة روح الشعر والأدب الحديثة، وأسمعوا الطلاب للمرة الأولى في حياتهم الدراسية قصائد شوقي وحافظ ومطران، وغيرهم.


لم يكن توافر إبراهيم طوقان على مطالعة شعر شوقي، حافظ والبارودي، سوى جزء من إعجابه الشديد بمصر، وتطلعاته إليها بعد أن زارها، أول مرة، مستشفياً عام (1922م)، فأنشد قائلاً:

قالوا: شفاؤك في مصر، وقد يئسوا

منى وأعيا سقامي من يداويني

خلفتها بلدة يعقوب خلفها

شوقاً ليوسف قبلي، فهو يحكيني

ما لي وللسقم أخشاه وأسأل عن

طبيبه، و(عماد الدين) يكفيني

لو أنشب الموت بي أظفاره لكفى

بأم كلثوم أن تشدو فتحييني

هذا، ومصر بساتين منمقة

شبابها بعض أزهار البساتين

خاضوا ميادين من جد ومن لعب

فأحرزوا السبق في كل الميادين 



فرح إبراهيم طوقان حين تناهى إلى سمعه عزم أحمد شوقي عام (1928م) على زيارة فلسطين، إذ هرع إلى تحيته بقصيدة (حطين-63) التي عبر فيها، بما أضفاه عليه من نعوت البيان وألقابه، عما كان يكنه له من تقدير وإعجاب وإعزاز، ثم استحثه على أن يكون لفلسطين في شعره نصيب:

أهلا برب المهرجان

أهلا بنابغة البيان

ملك القلوب المستقل

بعرشها، والصولجان

ومتوج حالت أشعة

تاجه دون العيان

أهلا بشوقي، شاعر الـفصحى ومعجزة البيان

لقد نهل إبراهيم طوقان من الثقافة العربية الخالصة، واطلع على أمهات كتبها ودواوينها الشعرية، حتى أظله أفق أدبي واسع، جعل منه ناثراً وأديباً بليغاً، بعد أن عرفناه شاعراً مبدعاً.

 

الكاتبة: رويدا محمد 

مجلة الشارقة

 

تعليقات