محمد جبريل: الصدق الفني معيار المبدع

الصدق الفني معيار المبدع

محمد جبريل: أستاذي نجيب محفوظ

 ولد الروائي محمد جبريل بالإسكندرية في عام (1938م)؛ عمل محرراً صحافياً بجريدة «الجمهورية»، ثم في جريدة «المساء»، كما عمل رئيساً لتحرير جريدة «الوطن» العمانية لمدة تسع سنوات، درست أعماله في جامعات عريقة كالسوربون، ورشح كثيراً لنيل جائزة نوبل في الآداب؛ حصل أخيراً على جائزة الدولة التقديرية.

 

تجاوزت مؤلفاته الخمسين كتاباً، نذكر منها في مجال الرواية: (من أوراق أبو الطيب المتنبي)، (قلعة الجبل)، (اعترافات سيد القرية)، (زهرة الصباح)، (الشاطئ الآخر)، (رباعية بحري)، (حكايات الفصول الأربعة)، (أهل البحر).

ومن أهم أعماله القصصية، نذكر: (تلك اللحظة)، (سوق العيد)، (رسالة السهم الذي لا يخطئ)، (ما لا نراه)، كما كان له حضور لافت في مجال الدراسات الأدبية والتاريخية: (نجيب محفوظ.. صداقة جيلين)، (السحار.. رحلة إلى السيرة النبوية)، (آباء الستينيات)، (مصر المكان)، و(البطل في الوجدان الشعبي).

 


س/ فعل الكتابة.. ماذا يعني للروائي محمد جبريل حينما يهم بكتابة أعماله الروائية أو القصصية، وكذلك في تصوير شخصياته وأبطاله؟

ج/ فعْل الكتابة اكتشاف، لا أتصور أن الكاتب يبدأ قصته، وهو يعرف تماماً صورتها النهائية. القصة تكتسب ملامحها أثناء ولادتها. أحياناً أبدأ في تصوير الشخصية، ولها في مخيلتي ملامح بذاتها، ثم تذوي هذه الملامح أثناء عملية الكتابة، لتحل بدلاً منها ملامح أخرى، فتأتي الشخصية مغايرة لكل ما تصورته. القصة تكتب نفسها، كأنها الأمواج التي تذهب بالقارب إلى شواطئ لم يكن يتوقع ربانه الوصول إليها، وكما يقول (جورج سيمنون)، الكاتب البلجيكي: (أنا لا أعرف في البداية ماذا سيحدث لأبطالي بعد قليل، فإذا عرفت ذلك، انتابني السأم والملل.. أنا لا أكتشف الوقائع دفعة واحدة، بل أقع عليها وأنا أنتقل من فصلٍ لآخر، وكأني أحكي قصتي لنفسي لا للآخرين).. وبالتأكيد، فإن ما أريده بعد أن أتم كتابة قصة ما، يختلف عن الصورة التي كتبته بها فعلاً.. تغيب شخصيات وأحداث وأماكن كنت أظنها أساسية في العمل، لتحل محلها شخصيات وأحداث وأماكن كانت مخفية في تلافيف الذاكرة.. مجرى الشعور لا يعرف الترتيب أو المنطق، ولا يحده زمان أو مكان.. وعموماً فأنا أكتفي برسم ملامح الشخصية بلا ثرثرة، ولا زيادات مقحمة، أصور الشخصية لأضيف إلى الرواية، وليس مجرد تصوير الشخصية في ذاته.

 

س/ ذكرت في إحدى مقالاتك أنك لا تحب الصحافة، وقلت: (إنها تقتل موهبة الأديب إذا نسي نفسه، وارتمى في أمواجها).. لماذا إذاً كان اختيارك للعمل الصحافي؟ وهل أعاقت الصحافة بشكلٍ أو بآخر إبداعك الأدبي؟

ج/ لأنها الأقرب إلى قدرات الأديب واهتماماته، وهمومه أيضاً. وقد وجدت في حياتي الصحافية أحياناً ما يغري بكتابة عمل أدبي، مثل رواية: (النظر إلى أسفل)، ورواية (الأسوار)..

أقدمت على العمل الصحافي، وفي خاطري مقولة (أرنست هيمنجواي) : (إن العمل الصحافي لن يؤذي الكاتب إذا استطاع أن يتخلص منه في الوقت المناسب).. لقد عاهدت نفسي على أن أي عمل أشتغل به غير الكتابة، سوف يكون مؤقتاً، لا لشيءٍ إلا من أجل الاستمرار في العيش، والاحتفاظ بسقف فوق رأسي، وبكساء فوق جسدي.. وإذا كنت قد حاولت الإجادة في عملي الصحافي، فلأني أحاول الإجادة في أي عمل أوافق على أدائه حتى لو لم أكن أحبه، فضلاً عن أني عملت في القسم الثقافي، فهو أقرب الأقسام الصحافية إلى نفس الأديب.

 


س/ تؤكد في كتابك: (نجيب محفوظ.. صداقة جيلين)، أنه كان أستاذك حقاً.. كيف تعرفت إلى أدبه؟ وما الذي أضافه إلى تجربتك الإبداعية؟

ج/ لم أتعرف إلى نجيب محفوظ إلا في مرحلة متأخرة بعض الشيء، ربما تعرفت إلى محمد عبدالحليم عبدالله، ومحمود البدوي، قبل نجيب محفوظ، لسببٍ لا حيلة لي فيه، لأن والدي لم يكن يقرأ نجيب محفوظ، وما كان يوجد في مكتبته كنت أقرؤه؛ ونجيب محفوظ هو أستاذي حقاً، وقد تعرفت إليه مصادفة في مكتبة عامة، وهي مكتبة المنيرة، فكنت آتي من الإسكندرية كل صيف أقضي بعضاً من الوقت عند عمة لي تسكن في المنيرة بالقاهرة.. في المكتبة وجدت أن هناك كتاباً موضوعاً على الطاولة، فأخذته وبدأت أقلب في صفحاته، فوجدت أنه يتحدث عن موظف كهل خرج من الديوان، وذهب إلى (خان الخليلي)، هذا الموظف اسمه (أحمد أفندي عاكف)، انسقت وراء أحداث هذه الرواية، حتى لم أفق إلا عندما طلب مني أمين المكتبة أن أنصرف، لأن ميعاد الإغلاق كان قد حان، هذه الرواية أحدثت لي تحولاً كبيراً، أذهلتني، جوٌّ مغايرٌ تماماً لكل الروايات التي كانت موجودة آنذاك، الواقعية الحقيقية، ربما الأجيال الحالية لا تشعر بقيمة (خان الخليلي)، أو الثلاثية الخالدة، لأن النهر أعطى والمياه تدفقت كثيراً، وصدرت مئات الأعمال، لكن أعمال نجيب محفوظ في الفترة التي ظهرت فيها فعلاً شكلت أخطر وأهم الملامح في الأدب المصري المعاصر، ومن هنا كانت بداية رحلة صداقة وحب بيني وبين نجيب محفوظ.

 


س/ تظهر على الساحة الأدبية بين الحين والآخر بعض القصص والروايات الغارقة في الغموض والرمزية المكثفة.. هل مثل هذه الأساليب تشكل جدوى في تقدم الأعمال القصصية أو الروائية؟ أم أن ذلك من الأمور التي تدعو لها حركة الحداثة وما بعدها من الغموض واللغة الإشارية وغيرهما؟

ج/ دعني أختصر لك المسألة، بدلاً من الدخول في تياراتٍ ودواماتٍ وأقوال.. يكفيني في العمل الفني أن أشعر بأن كاتبه يحمل الصدق، الصدق الفني.. أحس بأن هذا العمل هو عمل فني بالفعل، الفن إضمار، هذه ليست مقولة من ابتكاري، والعمل الفني لا بد أن يكون به نوع من الإضمار أو الغموض، التراث القصصي الروائي مضى عليه بالنسبة إلى أوروبا ثلاثة قرون وأكثر، ومضى بالنسبة إلينا ما يقرب من القرن، أصبح لدينا تراث ضخم، لم يعد هناك (المنفلوطي) الذي يعطيك الهدف من القصة في النهاية، ويقول: انتبه أيها القارئ، أنا أريد أن أوصل إليك تلك المعلومة، وأن الغني يجب أن يعتني بالفقير.. هذه النصائح المباشرة تجاوزناها تماماً، أصبح التلميح أو مجرد الإيحاء يكفي، كانت القصة عند الأديب الفرنسي (موباسان) على سبيل المثال قصة ذات نهاية واضحة ومحددة، تلك التي أسماها الدكتور (رشاد رشدي) لحظة التنوير، بمعنى لحظة إعطاء الدلالة الواضحة: البداية والذروة ولحظة التنوير، حتى جاء الأديب الروسي العبقري (أنطون تشيخوف) فترك النهاية مفتوحة، أي أن القصة يمكن أن تحمل عشرات الدلالات. أما منْ يتعمدون الغموض؛ فهذا يرجع بالتأكيد إلى عجزٍ صارخٍ في مواهبهم الإبداعية.

 

س/ بماذا يرى الروائي محمد جبريل واقع القصة والرواية في مصر وفي وطننا العربي الكبير؟

ج/ بالتأكيد هو واقع متفوق، توجد كثرة سيئة، ولكن يوجد في المقابل كثرة جيدة كعادة الأمور دائماً، لكن نحن بالقياس إلى الآداب العالمية، أؤكد أننا قطعنا قفزات رائعة، على الرغم من مصادرة الآخر لنا، فهم لايزالون يتعاملون معنا كأننا تراث، أو كأننا استشراق.

 


س/ في نهاية هذا الحوار الممتع.. ما أحلام الروائي محمد جبريل التي تحققت، وأحلامك التي تتمنى تحقيقها بإذن الله؟

ج/ كان حلمي وأنا صغير أن أصبح كاتباً، متى؟ لا أذكر على وجه التحديد.. وحينما كنت أقرأ كتباً، كنت أتمنى أن أكون مثل هؤلاء المؤلفين، وهذا ما قد حدث وتحقق، أما عن الإجادة وعدم الإجادة، فهي أشياء ترجع إلى قوة موهبتي أو ضآلتها، إنما كنت أتمنى من الله أن أصبح كاتب قصة أو رواية، ولو أني عدت إلى نقطة البداية مرة واثنتين وألفاً، فلن أتمنى سوى أن أصبح كاتباً، وأنا لا أجيد أي شيء آخر، أنا لا أصلح لأي شيء آخر، برغم أنني أنصح بضرورة الانصراف إلى التكنولوجيا والاهتمام بالعلم والتطوير، لكن أنا شخصياً لا أجيد إلا الكتابة، ولا أستطيع أن أعبر عن نفسي إلا بالقلم فقط.

 

الكاتبوفيق صفوت مختار

مجلة الشارقة