د.عبدالله الغذامي: رؤية 2030 تحررنا من زمن التمني والأقاويل

في رؤية حيادية تنتصر للإنسانية دون تمييز يرى الدكتور عبدالله الغذامي أستاذ النظرية الأدبية والنقدية بالجامعات السعودية والمفكر التنويري البارز أنه لا يصح أن يقال هذا غربي وذاك عربي، فالعقل البشري واحد وحينما يفكر فهو لا يحتاج لجواز سفر ولا لتأشيرات عبور. 

حمل د. الغذامي على عاتقه مشروعه الثقافي والأدبي التنويري الذي جاء انطلاقا من إعلانه نهاية وتهاوي منهجيات النقد الأدبي التاريخي أمام النقد الثقافي التي يرى أنها لم تعد قادرة على الإجابة عن أسئلة أبعد من قضايا جماليات النص مستندا على وعي تاريخي وثقافي خاص ينأى عن التقليد والتبعية. وقد أثرى المكتبة العربية خلال مسيرته التي امتدت لأكثر من ثلاثين عاما بدءا من عام 1987 بالعديد من المؤلفات المهمة في مجال النقد الأدبي والثقافة، توجها أخيرا بكتابه الفكري ( العقل المؤمن/ العقل الملحد) الذي حفزته الأسئلة الوجودية والقلق الوجودي بداخله منذ سبعينيات القرن المنصرم.


حطت محطتنا على أغصانه الوارفة في محاولة لاستشراف عوالمه الفكرية والثقافية والإطلاع على آرائه حول بعض القضايا الأدبية والفكرية فكان هذا الحوار:


س/ ماذا عن أهم الروافد القرائية التي أسهمت في التشكل المعرفي والثقافي الباكر لتجربتك؟
ج/ ابتدأت قراءاتي منذ كنت في المتوسطة مع كتب التراث ومتون المدونات التراثية مثل الأغاني والعقد الفريد، ومتون الشعر وكتب التاريخ، وهي كلها لما تزل عندي وإن رثَّ بعضها حتى إن كتاب الكامل للمبرد تيبست بعض أوراقه وتحتاج لعناية خاصة وقت اللمس كي لا تتكسر، وكنت أعجب من هذه الحال التي تخص كتاب الكامل دون غيره من كتبي القديمة إلى أن سافرت للقاهرة مرة فسألت الباعة في سوق الأزبكية عن تكسر أرواق الكتب فذكروا لي أن هذا يقع مع الكتب التي طبعت زمن الحرب العالمية إذ شح الورق حينها واستعملت مطابع الكتب في مصر ورقا خشنا كأنه الخشب ويظهر أثره مع السنين فيتكسر أحيانا مع التقليب ولهذا صرت أعتني بكتابي هذا حفاظا عليه لكي تبقى ذاكرتي مع زمني الأول، وكذلك عثرت مصادفة على وريقة صغيرة مكتوبة بخط يدي عام 1962 سجلت فيها زمن بدايتي مع القراءة الجادة، وحفظتها في وسط كتاب مروج الذهب للمسعودي وظلت ساكنة هناك حتى وقعت عليها يدي بعد أربعين سنة، وقد نشرت صورتها وقصتها في كتابي (اليد واللسان).


س/ ما هي مبرراتكم الذاتية والموضوعية للتحولات النظرية والمنهجية التي عرفتها ممارساتكم النقدية من البنيوية إلى التفكيك انتهاء بالنقد الثقافي؟
ج/ كان لا بد لي من التحول للنقد الثقافي بعد أن شعرت أن منهجيات النقد الأدبي لم تعد قادرة على الإجابة عن أسئلة أبعد من قضايا جماليات النص، ومنذ أن كتبت بحثي المعنون (نماذج للمرأة في الشعر المعاصر) عام 1987 كنت أحس بشيء ما يشاغب منهجياتي النقدية، فالبحث هذا جعلني أغوص على حال التهميش الثقافي وصرت أطرح الأسئلة حول ما يكمن وراء التهميش وكيف تناسل وتعمق وقادني هذا للكتابة عن المرأة ومقامها في الثقافة فجاء كتابي (المرأة واللغة ) وتبعته أربعة كتب في السلسلة نفسها وهذا فرش المهاد لانبثاق نظرية النقد الثقافي ورسم منهحيات هذا النقد، وتفصيل المنهجية جاء في الفصل الثاني من الكتاب.


س/ هل يمكن أن يبشر النقد الثقافي توصيفيا بتاريخ جديد للنص العربي بعيدا عن التقسيمات السياسية التي كرسها المنهج التاريخي تقليديا؟
ج/ النقد الثقافي يختلف جذريا عن النقد الأدبي من حيث أننا في النقد الأدبي نركز على النصوص، أما في النقد الثقافي فنبحث عن الأنساق الثاوية تحت النصوص، والنسق يسبق النص ولذا يهيمن عليه ويوقع الكاتب والكاتبة في حبائله وللنسق قدرة على صناعة العمى الثقافي حتى لنرى شاعرا مبدعا مثل نزار قباني الذي يوصف بأنه نصير المرأة يتحول عبر نصوصه إلى شاعر نسقي يصور المرأة بوصفها جسدا وليس بوصفا كينونة عاقلة مريدة وخلاقة، فأصبحت عنده لعبة إمتاع وليست قوة عقلية ذاتية، ولم يك نزار يهدف لهذا ولكنه كان ضحية لنسق قديم امتد منذ عمر بن أبي ربيعة إلى حفيده نزار، وبينهما عصور من الثقافة النسقية المتغولة.

 

س/ ما مدى جدوى الدعوات النقدية لتأصيل منهج عربي خالص للنقد انطلاقا من قراءة جديدة للتراث العربي؟
ج/ لا معنى للبحث في هذه التصورات غير العلمية، وعلى قول المثل الشعبي (المية تكذب الغطاس) من لديه منهجية ناجحة فستعلن نفسها، والمنهجيات ليس ثوبا نفصله على جسد، إنها خلاصات معرفية تتوالى مع تقدم المعرفة البشرية ولا يصح أن يقال هذا غربي وذاك عربي، فالعقل البشري واحد وحينما يفكر فهو لا يحتاج لجواز سفر ولا لتأشيرات عبور، أسلافنا لم يجدوا غضاضة من وصف أرسطو بالمعلم الأول وينهلوا من كتبه، ولكن العجزة من بعض معاصرينا هم من يردد هذه التقسيمات غير العلمية، ولن تري قائلا لهذا الكلام إلا وستجدينه عاجزا وليس له منتج يحتج به ويستند عليه. كمن يقول مثلا نريد طبا عربيا أو فيزياء عربية، ومثلهما النقدية فهي منشط عام يسهم فيه كل مشتغل بالنظرية، وتختلف الاشتغالات من شخص لشخص حسب مهارة الشخص وليس حسب جنسيته، ولذا وصفت هذه الدعاوي بغير العلمية لأنها لا تعي معنى العقل البشري بوصفه منتجا والإنتاج يستند لكل منتج بشري لكي ينمو معه ثم يتجاوزه، حسب معادلة بلوم عن لوحة التلقي وعناصرها الستة، وقد شرحتها في كتابي الخطيئة والتكفير.

س/ يركز النقد الثقافي على المضمون الفكري للنص بينما يغفل البنية الجمالية التي أنتجت هذا المضمون، فما هي حدود الفكري/ الأيدلوجي، والجمالي/ الأستطيقي في دراسة حداثة النصوص الإبداعية من منظور ثقافي؟
ج/ مشكلة الجماليات أنها خداعة ومراوغة وقد يتوهم المبدع أن الجمالية وحدها تجعله متجاوزا، وحينها يقع بالتقليدية دون وعي منه، والنقد الثقافي هو المنهج الكاشف لهذه المخاتلات، ولذا سنرى عبر النقد وكشفه للأنساق ان أدونيس مثلا رجعي ولم تغنه جماليات نصوصه أن يكون حداثيا إلا بحداثة مزورة لا يكشفها النقد الأدبي ولكن النقد الثقافي يعريها ويفضحها، وهنا الفارق بين أن تخدعنا الجماليات أو نضعها في مشرحة التحليل الناقد ونكشف قبحيات الجميل.ولعل كتابي توسع في شرح هذه القضايا.

س/ ما هو تقييمكم لمدى مواكبة المنجز العربي النقدي لدينامية النقد الغربي وهل يمكن أن نتحدث عن مدارس واتجاهات ومشاريع أصيلة في هذا السياق التثاقفي؟
ج/ كل ثقافة بشرية تقع في أمراض ثقافية تشمل الكل، تماما كالفيروسات لا تفرق بين البشر، ولذا فالأنساق الثقافية هي نفسها بين البشر. صورة المرأة مثلا أوالموقف من الأسود، أو الموقف من الضعيف والمختلف، هذه كلها فيروسات ثقافية تعم ولا تخص، ولذا فالنقد هنا سيكون عن النصوص التي تكشف هذه النسقيات، ومن ثم نكون على مشهد من الحقيقة السافرة، وهذا وحده هو المشروع الكبير في صناعة الوعي وتخفيز المعاني الكبرى في العدالة والحرية وهذه معان إنسانية عامة ومطلب إنساني عام، وليست مسألة قوميات. أعراق وحدود جغرافية.


س/ بعد إثراء المكتبة العربية بقرابة الثلاثين مؤلفا في عدة مباحث، جاء الذي « كان حلمي»، فهل يمكننا أن نعده مفتاح بوابة للدخول إلى عوالم الدكتور عبدالله الغذامي وتجربته فكريا وإنسانيا؟
ج/ ذاك هو كتابي الجديد (العقل المؤمن / العقل الملحد)، وهو مشروع ظل يشاغل حياتي العلمية كلها، وأول مناسبة حفزت طرح السؤال الكبير كانت عام 1971 في بريطانيا حيث تصادف أن جمعتني الظروف مع طلبة من السويد ومر سؤال عن نشوء الكون ودار نقاش عميق امتد لساعتين، ولم نصل لقناعة ولكن النقاش فجر الأسئلة الوجودية وظلت الأسئلة تجاور اهتماماتي الفكرية دون أن أتفرغ لها في بحث، وإن كنت ظللت أتابعها عبر قراءاتي الفلسفية وفي كتب العلوم الطبيعية إلى أن ظهر هوكينج وكتاباته المهمة في هذه القضية بدءا من كتابه تاريخ الزمن ثم كتابه (التصميم العظيم)، مضافا لما كنت أقرأه فلسفيا ولكن بحوثي في مجال النظرية النقدية استولت على عملي المنشور مع بقاء الأمنية بأن أكتب عن مسألة الكون وخلق الكون إلى أن حسمت أمري في النهاية وتفرغت كليا للكتاب، وقد صدر أخيرا قبل أسابيع، وأشعر أنني قد أنجزت كتابا كان بمثابة الحلم المصاحب لمساراتي وتحقق الحلم والحمد لله.


س/ حضورك الإيجابي اللافت في مواقع التواصل الاجتماعي يقودنا إلى سؤالك عن رأيك في مدى قدرة مواقع التواصل على توجيه الرأي العام؟
ج/ لم يعد يصح لنا أن نتكلم عن رأي عام واحد، لقد أصبحنا على مشهد تعددي تنبثق عنه آراء عامة وقد كشفت عن هذا في كتابي (ثقافة تويتر )، وتعدد الآراء وعموميتها اليوم جعلت الهيمنة على الاتجاه العام صعبة وتكاد تكون مستحيلة لأن الناس تتعرض لمنظومات متعددة من الآراء وكلها عامة، ولا يستطيع أحد التفرد بالصوت والمنبر، ذاك زمن مر وانتهى، ونحن في زمن التعددية الثقافية حيث الكل تملكوا منابر تخصهم ليقولوا فيها آراءهم، بمثل ما يشهدون ويسمعون آراء تعم ولا تخص وعبر فضاءات مفتوحة، ولذا فإن الهيمنات القديمة تعرضت اليوم لهزات عنيفة.

 

س/ هلا ذكرت لنا تجربة شكلت منعطفا مهما في حياتك؟
ج/ أشير هنا لإعلان في الراديو عام 1971 عن منحة دراسية للدراسة في بريطانيا ماجستير ودكتوراه، وكانت منحة واحدة أعلنت للمسابقة عليها في جامعة الملك عبد العزيز في جدة، وكانت الحامعة حينها أهلية ولم تصبح حكومية إلا بعد ذلك الإعلان بأشهر،. والإعلان جاء مرة واحدة وفي الإذاعة فقط ولم يظهر في الصحف، يعني لو لم أسمع الإعلان في تلك اللحظة لما علمت عنه من أي مصدر آخر، وقد ذهبت فورا إلى جدة وقدمت أوراقي مع عدد من المتسابقين وتمت مقابلات شخصية مع الكل من لجنة علمية مكونة من خمسة أعضاء، وبعد عودتي للرياض بشهر تقريبا جاءتني برقية تبلغني بالفوز بالمنحة وغادرت ألى بريطانيا في أغسطس 1971 وهذه لحظة تحول أساسي في مسار حياتي كلها.

س/ والمملكة تسير نحو رؤية 2030، كيف ترى أهمية دور الكتاب والمثقفين في رفع الوعي المجتمعي لمواكبة المسيرة، وما أهم ما تنصحهم به؟
ج/ أرى الدور اليوم للعمل وليس للقول، والشباب والشابات هم وهن من يقود المرحلة، نحن في جيل الشباب والرؤية وتحررنا من زمن التمني والأقاويل، ومن يعملون الآن في الخطط والبرامج هم وهن من يصنع الرؤية وينتجها عملا ومنجزا، وهذه هو التغير الضخم والجذري الذي أحدثته الرؤية في العقول وفي نظرية الإنجاز.

س/ كلمة أخيرة تحب قولها عبر نافذة اليمامة؟

ج/ هي الكلمة الأولى وليست الأخيرة، شكرا لليمامة ومندوبة اليمامة.

 

الكاتبة: منى حسن

مجلة اليمامة

تعليقات